أبيات القصيدة الحصرية الشاعر الحسن الحصري القيرواني نسبة مؤلفاته تعليمة دراسته قصة حياته كاملة
هو الشاعر الضرير علي بن عبد المغني الفهري، وكنيته أبو الحسن، وعرف بالحصري القيرواني، نسبة إلى العمل بالحصر (۱)، أو إلى ضاحية من ضواحي مدينة القيروان بتونس حيث تربى، قبل أن يغادرها إلى الأندلس في منتصف القرن الخامس الهجري إبان حكم ملوك الطوائف. وقد طاف مدن الأندلس ومدح ملوكها، واتصل بالمعتمد بن عباد ولقي عنده حظوة، قال يعزيه في موت أبيه المعتضد : مات عباد ولكن بقي النجل الكريم فكأن الميت حي غير أن الضاد ميم (۲) ومما يذكر أنه مدح بعض ملوك الأندلس فغفل عنه، ولما عزم على الرحيل دخل عليه وأنشده:
هذان خصمان لست أقضي محبتي تقتضي ودادي وحالتي تقتضي الرحيلا بينهما خوف أن أميلا ولا يزالان في اختصام حتى ترى رأيك الجميلا كان أبو الحسن عالماً بالقراءات، وهي الروايات التي نسبت إلى أئمة القراء في قراءة القرآن الكريم، واشتهر بقراءة نافع إحدى هذه القراءات، ونظم فيها القصيدة الحصرية وهي في ٢١٢ بيتاً، قال عنه بعض القدماء ( بحر براعة، ورأس صناعة، وزعيم جماعة).
وعلى الرغم مما نال من الشهرة في الأندلس، إلا إنه ظل دائم الحنين لوطنه، وبعد انقضاء عصر ملوك الطوائف غادر الأندلس إلى طنجة، حيث وافاه الأجل عام ٤٨٨ هـ / ١٠٩٥م.
والأبيات الآتية من مقدمة شهيرة لقصيدة من بحر الحبب، نالت شهرة واسعة، وعارضها نحو خمسين شاعرا من القدماء والمحدثين، ولعل أشهر تلك المعارضات في العصر الحديث قصيدة أحمد شوقي التي يقول في مطلعها: مضناك جفاه مرقده وبكاه ورحم عوده.
يا ليل الصب منى غده
أقيام الساعة موعده؟
رقد الثمار وأرقه
أسف للبين يردده
فكاه النجم ورق له
مما يرعاه ويرصده
كلف بغزال ذي هيف
خوف الواشين يشرده
نصبت عيناي له شركاً
في النوم فعر تصيده
يا من جحدت عيناه دمي
وعلى خديه تورده
خداك قد اعترفا بدمي
فعلام جفونك تجحده
يهوى المشتاق لقاءكم
وصروف الدهر تبعده
ما أحلى الوصل وأعذبه
لولا الأيام تنكده
بالبين وبالهجران فيا
لفؤادي ؛ كيف تجلده؟
الصب : العاشق المشتاق، أرقه : أسهره يرصده يرقبه، كلف : مولع الهيف : ضمور البطن والخاصرة الواشين: التمامين يشرده ينفره الشرك : حبالة الصائد، عز : تعذر، صروف الدهر : مصائبه، تجلده : صبره واحتماله.
يخاطب الشاعر الليل، وقد طال ولم يأت الغد الذي ينتظره، فيقول : يا ليل متى غد المشتاق ؟ أموعده قيام الساعة ؟! ، لقد نام الجميع، وبقي المشتاق ساهرا يعاوده أسف الفراق، حتى لقد رق له النجم وبكى متعاطفا معه لطول ما بات يناجيه. ذلك أن هذا المشتاق مغرم بفتاة تشبه الغزال ضامر الخصر والبطن دائم الهرب خوفاً من الواشين النمامين، وكانت عيناه قد نصبت له مصيدة لتصطاده في الحلم فتعذر اصطياده، ثم يخاطب هذا المحبوب مباشرة فيقول : أيها الحبيب الذي لم تعترف عيناه بقتلي مع أن دمي يظهر في تورد خديه، إن خديك تعترفان بقتلي، فلم جفناك ينكران ذلك ؟، إن المشتاق ليهوى لقاءكم، ولكن مصائب الدهر تبعده عنكم، فما أحلى وصلكم لولا الأيام التي تفسده بالفراق، وإني لأستغرب كم يحتمل قلبي.
درج الشعراء على الشكوى من طول الليل أيام الفراق، ومن قصره أيام الوصال لكن دالية القيرواني لما فيها من صدق الشعور، وبساطة الكلمات والصور كانت الأكثر شهرة وذيوعاً، وبخاصة لقصر البحر ورشاقة الإيقاع، الأمر الذي حدا بالمغنين لأن يشدوا بها، وبالشعراء لأن ينسجوا على منوالها.
في الأبيات الثلاثة الأولى يشكو الشاعر من طول الليل، فيبدأ البيت الأول بأسلوب إنشائي، حيث ينادي الليل متضجرا ليسأله عن الصب متى غده ؟ وهو استفهام يوحي بالسام من طول الليل، ثم يردفه باستفهام آخر يدل على الاستبطاء أقيام الساعة موعده ، ثم يتحول من الأسلوب الإنشائي إلى الخبري في الأبيات الأربعة التالية، فيقول ( رقد السمار وأرقه أسف ...) وبين ( رقد » و « أرقه ) طباق يزيد من التأثير وإبراز حالة الشاعر، وهذا ما يفعله البيت الثالث؛ حيث يسند البكاء إلى النجم، ويمنحه من رقة المشاعر ما يجعله يقاسم الشاعر أشجانه، فهي استعارة مكنية، إذ صور النجم إنساناً يبكي، وحذف المشبه به وأتى بصفة من صفاته هي البكاء، والشاعر هنا يصور ما وصل إليه حاله، ويلمح إلى طول سهره وصحبته للنجم.
أما في البيت الرابع والخامس فقد برزت صورة الغزال الأهيف، فالشاعر شبه الحبيبة بالغزال، ثم حذف المشبه وهو الحبيبة، وأتى بالمشبه به وهو الغزال، فهي استعارة تصريحية أعطت المعنى قوة، ذلك أنه لم يقل حبيبته تشبه الغزال بل هي الغزال نفسه، ثم يستغرق في هذه الصورة فيستعير صفة من صفات الغزال وهي الشرود ليقول : إن غزاله دائم الشرود بسبب الخوف من الواشين. وتتطور الصورة بذكر آلية الصيد في البيت الخامس، فالشاعر نصب بعينيه شركاً لطيف حبيبته، فلم يقدر على اصطياده حتى في النوم، وفي قوله : إن عينيه هي التي نصبت الشرك استعارة مكنية. أما في البيتين السادس والسابع فتاتي صورة أخرى يتعمقها الشاعر هي صورة القتل، فحبيبته قتلته بعينيها دون أن تتعمده، ثم تنكر ذلك، إلا أن دم المقتول يظهر في احمرار خديها، والشاعر يتخذ من احمرار خديها دليل إدانة !.
في البيت السادس يعود للإنشاء مرة ثانية لينادي من يهوى فيصف ويعاتب في وقت واحد، فهو يصف عيني حبيبته بأنها تقتل من شدة جمالها، وقد قتلته وأنكرت أو جحدت، وفي إسناد الجحود للعين استعارة مكنية، ثم يصف خدي من يهوى بأنهما متوردان، غير أنه جعل ذلك التورد والاحمرار من دمه كقتيل، ليمهد للبيت السابع، حيث يقول :
و خداك قد اعترفا بدمي وفي هذا استعارة مكنية طريفة ، حيث جعل الخدين المتهمين يعترفان، ويختم هذه الصورة المركبة بالاستفهام ( فعلام جفونك تجحده، وفي إسناد الجحود للجفون استعارة مكنية، وبين ( اعترفا » و « تجحده ) طباق.
وفي الأبيات الأخيرة يصف الشاعر ما يلاقيه من صروف الأيام والليائي، حيث تتوالى الاستعارات المكنية في الأبيات، كما في البيت الثامن ( صروف الدهر تبعده ) والتاسع الأيام تنكده لينتهي النص بذلك الاستفهام البديع والمؤثر الذي سبقه النداء يا لفؤادي كيف تجلده والمراد من الاستفهام والنداء هنا التعجب !. كما نجد المقابلة في البيتين الثامن والتاسع بين لقاءكم - تبعده ) وبين ( أعذبه تنكده ) قد زاد من عمق المعنى.