فلسفة ورثاء الشاعر أبي العلاء المعري نشأته نسبه مؤلفاته سيرته كاملة
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان بن التنوخي، ولد بمعرة النعمان سنة ٣٦٣هـ ٩٤٨م، ونسب إليها، وكف بصره وهو في الرابعة من عمره إثر إصابته بمرض الجدري، درس النحو واللغة على يد والده في المعرة، فهو من بيت علم كبير في بلده . نظم الشعر وهو في الحادية عشرة من عمره، مما يدل على الموهبة المبكرة، وتوقدالذكاء لديه. رحل إلى بغداد، فأقام بها سنة وسبعة أشهر، وهناك اطلع - كما قيل على الفلسفة الفارسية والهندية، وآراء البراهمة، ثم عاد إلى المعرة، وقد زهد في الدنيا، وآثر العزلة، فلزم بيته، وسمي رهين المحبسين ( فقدان البصر ولزومه منزله ).
كان يحرم إيلام الحيوان، ولذلك لم يأكل اللحم خمساً وأربعين سنة. اتخذ من شعره مجالاً للتعبير عن آرائه في الحياة والطبيعة والإنسان والأخلاق على نحو تشاؤمي. وقد ألزم نفسه في الشعر بما لا يلزم من قيود في القافية، وتكلف الغريب والإكثار من البديع. ترك المعري ثلاثة دواوين شعرية هي: لزوم مالا يلزم، ويسمى اللزوميات، وسقط الزند، وضوء السقط، ويسمى : الدرعيات. كما ترك كتباً نثرية ذات قيمة أدبية، أشهرها : رسالة الغفران، وعبث الوليد، ومعجز أحمد ( يعني أحمد بن الحسين المتنبي). وقد ترجم كثير من شعره وبعض كتبه النثرية إلى غير العربية.
ألف كثير من معاصريه ، ومن بعدهم كتباً ودراسات حول آراء المعري، وفلسفته مثل : ( أوج التحري عن حيثية أبي العلاء المعري ) ليوسف البديعي، و مع أبي العلاء المعري ) لـ طه حسين و رجعة أبي العلاء ) لـ عباس محمود العقاد وغيرهم كثير. توفي بمسقط رأسه ( معرة النعمان ) سنة ٤٤٩ هـ الموافق ١٠٥٧م، وقد وقف على قبره أربعة وثمانون شاعراً يرثونه - رحمه الله . والنص الآتي مأخوذ من قصيدة الشاعرنا المعري يرثي بها صديقه أبا حمزة الفقيه، وهو ينطلق - كما هو واضح من النص - من رثاء صديقه إلى رثاء الإنسانية جمعاء، والأسى لحالها . وقد جاءت الأبيات من بحر ( الخفيف ).
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قيس
بصوت البشير في كل ناد
أبكت تلكم الحمامة أم غنت
على فرع غصنها المياد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحــب
فأين القبور من عهد عــاد
خفف الوطء ما أظن أديم الـ
أرض إلا من هذه الأجساد
سر إن اسطعت في الهواء رويداً
لا اختيالاً على رفات العباد
رب لحد قد صار خدا مراراً
ضاحك من تزاحم الأضداد
فاسأل الفرقدين عمن أحدًا
من قبيل وأنسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهار
وأنارا لمدلج في سواد
تعب كلها الحياة فما أعـجب
إلا من راغب في ازدياد
واللبيب اللبيب من ليس يغتر
بكون مصيره للفساد!
مجد مفيد، ملتي : ديني ومذهبي النعي : الناعي الذي يخبر بموت إنسان، البشير : الذي يخبر بما يسر، ناد: مكان تجمع الناس، أديم الأرض : ظاهرها، الفرقدان : نجمان في الدب الأصغر، قبيل : الجماعة من الناس المدلج : السائر ليلاً، للفساد : إلى التغير والزوال.
تدور أبيات النص حول ثلاث فكر: الحزن والفرح لا يغيران المصير، الأبيات من (۳۱) آثار الزوال شاخصة تعظ الغافلين، الآبيات ( ٤-٩ ) - العاقل لا يغتر بشيء زائل، الأبيات من ( ۱۰-۱۱ ).
يقول المعري : غير مفيد - في مذهبي - البكاء أو الضحك، تجاه المصير المحتوم للإنسان، فلا السرور يؤخر الأجل، ولا الحزن يقدمه، فوجودهما وعدمهما سواء، فالذي ينقل أخبار الموت هو كالذي ينقل أخبار الولادة، ولا فرق عندي، وكلاهما لا يمكن أن يغير في سير الحياة شيئاً. والذي عنده علم بالفرق بين الغناء والبكاء فليخبرنا عن تلك الأصوات التي تطلقها الحمامة : هل هي : بكاء أم غناء ؟ وحتى لو قدر لنا أن تعرف أنه غناء أو بكاء، فإنهما يستويان عندي، لأن أحداً منهما لن يغير من سير الحياة ومصير الأحياء شيئاً.
وزوال الحياة والأحياء قدر محتوم منذ وجود الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، انظر إلى كثرة مقابر أهلنا وذوينا الذين عاش معظمهم معنا، تجد أن المقابر تكاد تغطي وجه الأرض، فإذا كانت قبورنا بهذه الكثرة، فأين قبور الأولين مثل عاد ومن قبلهم ومن بعدهم ؟ إنني أظن أن هذه القشرة على وجه الأرض إنما هي من أجساد بني آدم، فإذا خطوت فخفف الخطو، لأنك تسير على أجساد البشر، وإذا استطعت أن تسير في الهواء فهو أفضل لك من أن تختال على رفات بني آدم بأقدامك.
فاللحد الواحد ربما قد صار لحداً مرات عديدة، وهو يضحك - تعجباً من تزاحم الأضداد الواردة إليه؛ فمرة يقبر فيه غني ومرة فقير، ومرة حاكم ومرة محكوم، ومرة صغير ومرة كبير ! وهكذا تتزاحم المتضادات على بقعة واحدة ضيقة المساحة. وإذا أردت التأكد أكثر، فاسأل نجمي الفرقدين عن إحساسهما بقوافل البشر التي ذهبت، وإيناسهما للبلدان على مر العصور، فإنهما مطلعان على ذلك، فقد كانا وما زالا شاهدين على النهار، ومنيرين لليل منذ أقدم الأزمان، وما أكثر الأيام والليالي التي مرت بهما ! والحياة كلها نكد وتعب، والعجب كل عجب ممن يطلب المزيد من ذلك ! والذكي الفطن هو الذي لا يغتر بما هو زائل، فلا يجعل كل همه في الدنيا الزائلة الفانية، وإنما يطمح دائماً إلى الباقي الخالد، من مواقف فاضلة، وأعمال جليلة، وسلوك صالح قويم، ينتفع به، وينفع به الآخرين.
تظهر عبقرية المعري الفيلسوف الشاعر في قدرته على التعبير عن رؤيته الفكرية الفلسفية البالغة في العمق، بأسلوب شاعري وجداني جذاب، اختار فيه الألفاظ المناسبة التي تؤدي دورها في كلا الاتجاهين. فمثلاً في الأبيات الثلاثة الأولى استخدم الكلمات الشاعرية المؤثرة ( نوح باك - ترنم شاد - النعي - البشير - بكت - الحمامة - غنت فرع غصنها - المياد ( دون أن يضفي عليها بهارج أو خيالات، وإنما أوردها بمدلولاتها الحقيقية لتكون داعمة لتوضيح رؤيته الفلسفية، ومؤكدة الحقائق التي يؤمن بها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى استخدم أسلوب الاستقصاء للمعنى وضده، ليوحي بالإحاطة، فيكون أقوى في الإقناع ( نوح باك - ترنم شاد ) ( النعي - البشير ) ( بكت - غنت ) بواسطة كلمتي ( غير - كل ) حيث إنه استطاع أن يحرك العاطفة، ويخاطب العقل والمنطق بتوازن، دون أن يطغى أسلوب أحدهما على أسلوب الآخر. ثم دعم وجهة نظره الفلسفية بأمرين: الأول مجيء الأسلوب الخبري في البيتين الأولين ابتدائيا دون مؤكد، وكأنه يقول : إن مذهبه لا خلاف عليه . - الثاني، مجيء الأسلوب
الإنشائي الاستفهامي ( أبكت - أم غنت ) الذي أراد به التسوية، لتأكيد الحقيقة التي يذهب إليها؛ وهي أن مصير الحياة لا يحول دونه بكاء أو ضحك، فهما سيان، مع ترك الاستفهام مفتوحاً دون إجابة، ليكون أقوى في الإقناع النفسي والعقلي. في البيت الرابع نداء ( صاح ) أي يا صاحبي واستفهام ( أين القبور. أراد بهما الاتعاظ، مع الاستدلال على صدق رؤيته للحياة . والأسلوب الإنشائي في البيت الخامس الأمرا خفف الوطء » أراد به النصح بالتواضع، وفي قوله : ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد ، ذروة تعميم الحزن الذي لم يقتصر على موت صديقه فحسب، وإنما امتد إلى مقابر الأولين والآخرين؛ حيث أصبح وجه الكرة الأرضية مكوناً من رفات بني آدم، وأن كل من فوق الأرض سيصير إلى ذلك ! واسم الإشارة هذه الأجساد ، يقصد به « الأحياء» لتنبيه الغافلين منهم.
ثم أكد هذا المعنى بالأمر في البيت السادس سر إن اسطعت ... الذي أراد به التوجيه والإرشاد بالتواضع لعل النفوس الجموحة ترعوي عن غيها، وتخفف من غرورها.
وفي البيت السابع لقطة متحركة من هذا المأتم الواسع توحي به كلمة ( تزاحم ) فقد جعلتنا نتخيل أن الأموات - المتباينين جنساً وحالاً - قد شكلوا ازدحاماً خانقاً على مساحة اللحد الضيقة، وفي كلمة ) ضاحك ) استعارة مكنية حيث شبه اللحد بإنسان، ثم حذف المشبه به، وأبقى شيئًا من لوازمه وهو الضحك، وأعطت اللحد مشاعر انفعالية جسدت المعنى الذي أثار الضحك، وهو ازدحام في بقعة واحدة !
والأسلوب الإنشائي( فاسأل الفرقدين في البيت الثامن غرضه التأمل، ولفت النظر إلى كثرة البشر الذين طواهم الزمن ! وكلمة ( أحساء فيها استعارة، حيث جعلهما يحسان كالبشر، وكذلك قوله : ( آنسا ، وقد سهلتا للسائل طريق التخاطب مع الجماد.
والبيت التاسع امتداد للبيت الثامن، وتكملة لمضمون السؤال، وفيه كناية عن كثرة الأيام والليالي المنصرمة، تشير إليها كلمة ( كم ، وتؤكدها النكرتان : (نهار - مدلج ) . وفي البيت العاشر تقديم خبر المبتدأ ( تعب ) للاختصاص، وقطع الشك عند المخاطب من أن الحياة فيها غير ذلك، إذ ليس فيها - في نظره - إلا التعب والنكد والنصب، وقوله : فما أعجب إلا من راغب في ازدياد فيه إنكار شديد على المتنافسين في هذه الحياة الزائلة المتعبة، والتوكيد اللفظي في البيت الحادي عشر يفيد الحث على التعقل، وعدم الاغترار بالحياة وبهارجها. أخيرا تجدر الإشارة هنا إلى أن فلسفة المعري ورؤيته للحياة والأحياء، معظمها مأخوذ من القرآن والسنة قال تعالى : ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءِ أَنزَلْنَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا نَذَرُوهُ الرِّيحُ ) وفي الحديث الشريف: ( كفى بالموت واعظا.