وجد وشوق أبيات الشاعر ابو القاسم الفارض نسبه أصله مؤلفاته زوجته حياته كاملة
هو أبو القاسم عمر بن علي بن مرشد الملقب بابن الفارض، حموي الأب مصري المولد والنشأة، والوفاة. يمتد نسبه إلى قبيلة بني سعد التي تنتمي إليها السيدة حليمة مرضعة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وقد ولد عام ٥٧٦ للهجرة. كان أبوه رجل علم وفضل وجاه؛ يتصدر مجالس الحكم والعلم. وعندما طلب منه أن يكون قاضي القضاة امتنع واعتزل الناس، وانقطع إلى عبادة الله بالجامع الأزهر، واجتهد في توريث ابنه كل سجاياه الحميدة ، فنشأ ابن الفارض تحت كنف أبيه في عفاف، وقناعة، وورع . فلما قوي عوده اشتغل بفقه الشافعية، وأخذ الحديث عن ابن عساكر. كما عرف عنه ميله إلى الحلوة، والتأمل، وكثرة العبادة، وحبه للتقشف. وقد عبر عن ذلك - مبينا نهجه الخاص - في قوله:
وأبعدني عن أربعي بعد أربع شبابي وعقلي وارتياحي وصحتي فلي بعد أوطاني سكون إلى الفلا وبالوحش أنسي إذ من الأنس وحشتي بعد وفاة والده قصد مكة المكرمة، وأقام فيها زهاء خمسة عشر عاماً، وهناك بين المناسك المقدسة نضجت شاعريته، وكملت مواهبه الروحية. ثم عاد إلى مصر وقد سبقه إليها ذكره العطر، فعرف الناس فضله فرفعوه إلى مصاف الصالحين، وقصد بالزيارة من الخاص والعام حتى إن الملك الأيوبي الكامل كان ينزل لزيارته.
لابن الفارض ديوان شعر لطيف ينحو منحى الزهاد الصوفيين، التزم فيه لوناً معينا واحداً هو الوجد الروحي الهائم في الحب الإلهي، والذي عبر عنه بصور شتى، فامتاز شعره بالرقة، والعاطفة، وتجلى في أسمى صوره المعنوية، والحسية، وهو يصف بعض ما في الكون من آيات الحب والخير، والجمال. كما أنه طور مفهوم الشعر الصوفي حتى أصبح على يديه - كما يرى بعض النقاد مدرسة كاملة البناء والمحتوى. ترجم ديوانه، إلى لغات متعددة، وظل عطاؤه متدفقاً حتى وافته المنية - رحمه الله - عام ٦٣٢ هـ ودفن بسفح جبل المقطم بالقاهرة تحت المسجد المعروف بالفارض . من ديوانه المشهور نختار بعض أبيات من بحر الكامل.
لم أقض حق هواك إن كُنتُ الذي
لم أقض فيه أسى، ومثلي مَنْ يَفي
مالي سوى روحي وباذل نفسه
في حب من يهواه ليس بمسرف
فلئن رضيت بها فقد أسعفتني
يا خيبة المسعى إذا لم تسعف
أخفيتُ حبكم فأخفاني أسى
حتى لَعمري كدتُ عنه أَختَفي
وكتمته عنّي فلو أبديته
لوجدته أخفى من اللطف الخفي
لا غرو إِن شحت بغمض جفونها
عيني وسحَت بالدموع الدرف
غلب الهوى فأطعت أمر صبابتي
من حيث فيه عصيت نهي معلفي
دع عنك تعنيفي وذ طعم الهوى
فإذا عشقت فبعد ذلك عنف
أقضي ( الأولى ) : أفي ( من الوفاء ) ، أقضي ( الثانية ) : أموت ، أسى : حزناً ولوعة، لا غرو : لا عجب ، شحت : بخلت ، سخت : سالت ، الدموع الذرف : الدموع المنهمرة لشدة تدفقها ، صبابتي : الصبابة شدة العشق ، اللطف : الخفي جداً بحيث يصعب إدراكه.
يصف ابن الفارض حبه الكبير لخالقه، فيقول : إن كنت لم اتحرق لوعة، وشوقاً في طلب محبتك فلست جديراً بهذا الحب العظيم والنفس التي يقصد الشاعر التضحية بها تعني التخلص من كل أهوائه ورغباته بحيث لا يكون في قلبه سوى محبة الله.
فالمحب الصادق الذي يماثلني في مقامي لا بد أن يكون مخلصاً في حبه، متيماً في محراب من يحب. فها أنا أصبحت لا أملك غير روحي التي لا أستطيع أن أتصرف بها، كونها نفحة من روحك، أما نفسي فقد تخليت عنها، وبذلتها، و تنازلت عن كل متعة لي حتى أحظى برضاك عن حبي، وليس بمسرف من يجود بأنفس ما يملك لمن يحب . فإذا رضيت عني، وقبلت حبي أكون قد بلغت المنى، وحظيت بالسعادة، أما إذا لم تقبله مني فإني أندب جدي"، وسعيي اللذين خاب رجاؤهما، وبطل أملهما في بلوغ هذه الغاية العظيمة. ثم يأتي الشاعر بصورة فريدة غامرة بتدفق المشاعر الرقيقة - وإن كان يكتنف بعض معانيها الغموض - فيقول : لقد أخفيت حبكم، فكادت لوعته تفنيني، ومن شدة حرصي عليه كتمته حتى عن نفسي، نظراً لرقته، ولطفه، فهو حب صاف من قيود المادة لا يماثله أي حب دنيوي . فهو لطيف بل هو أخفى من اللطف الخفي.
ويتابع الشاعر وصف أحاسيسه فيقول : لا عجب من بخل عيني بنومها، وسماحتها بدموعها الغزيرة؛ فهذا يعكس مكابدتي، وصبري لما تقتضيه المحبة من العذاب، والجوى شوقاً إلى المحب. وأقول لمن من العاذلين أن يثنيني عن هذا الحب العظيم: ( لو أحببت كما أحببنا لفهمت كما فهمنا ).
انتهج ابن الفارض في هذه الأبيات المنتقاة من قصيدته - بل في كل شعره - شكل الطابع القديم الذي لم يفرط بعمود الشعر التقليدي إلا أن شعره من حيث المضمون أخذ اتجاهين: أولهما: أنه ألبس معانيه أثواباً من الصور التقليدية في الغزل حيث لم يتسن له مخاطبة العالم الخارجي بما تجيش به خواطره من منبع الصفاء الروحي المقيم في أغوار نفسه ما لم تنعكس فيه صور من مادية هذا العالم، ولهذا نرى تعبيرات مثل: حق هواك - غلب الهوى - أمر صبابتي - فإذا عشقت . أما الاتجاه الثاني : فقد نحا به نحو الغموض حيث تعجز المعاني عن إبانة نشوته.
التي لا حدود لها ؛ كون المحبوب المعني هو أكبر من أن تتسع معاني اللغة للإحاطة به . لهذا نرى تعبيرات موغلة في الغرابة كونها تخطت دائرة الحس، فلا تخضع لتحليلات البلاغة، بل تنساب متدفقة - دون قيود أو حواجز - من بحر وجدان الشاعر، و خلجات خواطره، وصدق إحساسه. من تلك التعبيرات : ) كدت عنه أختفي - اللطف الخفي - أخفى من اللطف الخفي ).
واحتوى النص - كذلك - على العديد من الصور البلاغية التي جعلته أكثر روعة وجمالاً مثل: الجناس التام في كلمتي : أقضي - أقضي - حيث اتفقتا بعدد الحروف، وترتيبها بينما اختلفنا في المعنى؛ فالأولى بمعنى أفي من الوفاء، والثانية بمعنى : أموت - وكذلك الجناس غير التام في لفظتي : شحت - سحت . كونهما اتفقتا في أغلب حروفهما، واختلفتا في المعنى؛ فالأولى بمعنى : بخلت، والثانية بمعنى : جادت - كما ترى - أيضاً - في هذين اللفظين مقابلة أبرزت بوضوح معاناة الشاعر في حسية تجلت في موقفين متضادين لعيني الشاعر ؛ فهما شديد تا البخل في النوم من جهة، وسخيتان بتدفق الدموع الغزيرة من جهة أخرى.
كذلك المقابلة في أطعت - عصيت - أمر - نهي التي ساهمت في تصوير رفض الشاعر المطلق لأي مساومة تثنيه عن التخلي عن حبه.
كما أن الاستعارات المكنية التي وردت في قوله : ( أمر صبابتي - ذق طعم الهوى أخفاني أسى ) قد جسدت المعاني المعنوية في صور حسية مشخصة . فالصبابة تأمر، والهوى يمكن تذوقه، والحب له القدرة على أن يختفي، ويختفى عنه.
وأيضا حفل النص بالعديد من التعبيرات الموحية مثل : النداء غير الحقيقي في : ( يا خيبة المسعى ( الذي يقصد به التحسر. والقسم ( لعمري ) الذي يفيد التوكيد، والمبالغة في ( الدموع الذرف ( التي توحي بمدى معاناة الشاعر. والقصر في ( مالي سوى روحي ( الذي يفيد التأكيد على محدودية قدرته، والكناية في ( باذل نفسه ) التي تبرز عظم التضحية.
وهكذا نلتمس قدرة الشاعر الفائقة في تصوير أرق المشاعر الإنسانية التي صاغها في حلل لفظية جميلة، ومعان موحية - سواء ما كان في أثرها الحسي أم فيضها الروحي المتعلق بمناجاة الذات الإلهية، ومحاولة الاقتراب من تمثل درجة الكمال الروحي.