عام الحزن ألم المرض بأبي طالب، فلم يلبث أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة، وفي أثناء مرضه دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال : ( أي عم قل : لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شيء كلمهم به : على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لأستغفرن لك ما لم أنه عنه ) .
وفاة خديجة رحمة الله
بعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين توفيت أم المؤمنين خديجة الكبرى رضي الله عنها وكانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر، وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمنت بی حین کفر بي الناس، وصدقتنى حين كذبني الناس، وأشركتنى في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها وحرم ولد غيرها .
تراكم الأحزان في عام الحزن
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه فإنهم تجرأوا عليه وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد عما على غم، حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف رجاء أن يستجيبوا لدعوته، أو يؤووه وينصروه على قومه، فلم ير من يؤوي ولم ير ناصراً، بل آذوه أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومه .
اشتداد وطأة أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا، ودخل بيته والتراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها : ( لا تبكي يابنية، فإن الله مانع أباك ) . ويقول بين ذلك : ( ما نالت منى قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب ) . التجأ صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الهجرة عن مكة، فخرج حتى بلغ برك العماد، يريد الحبشة، فأرجعه ابن الدغنة في جواره . قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِلَادِكَ. فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلَا يُخْرَجُ ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ ؟.